مابعد الحرب
الحرب العالمية الثانية كانت فيصلا لـ "نهج القواعد" على زخم جديد لتطورها. فإن الأوساط الحاكمة في الولايات المتحدة وطغمتها العسكرية الرجعية، سعياً منها لضمان تحقيق مطامع الاحتكارات الأمريكية في السيطرة على العالم، واصلت سياسة توسيع شبكة القواعد العدوانية الشاملة. وكان الهدف من وراء ذلك هو قيام القوات المسلحة الأمريكية بعمليات عسكرية ضد الدول المحبة للسلام حيثما كانت. وأصبحت هذه الشبكة، علاوة على قواعد الدول الإمبريالية الأخرى التي انضمت إلى مختلف الأحلاف العسكرية العدوانية وعقدت اتفاقيات ثنائية مع واشنطن، أصبحت تحيط بالقارات والمحيطات كنسيج العنكبوت. وقد حولت مناطق شاسعة تضم أراضي دول عديدة إلى مرتكزات عسكرية للإمبريالية الأمريكية، ونذكر منها مثلاً وسط أوروبا الغربية وحوض البحر الأبيض المتوسط وجنوب شرقي آسيا وغيرها.
وفي تلك الآونة حاول البروفيسور الأمريكي كيفير المختص في السياسة الطبيعية التنبؤ بالنزاعات العسكرية المقبلة وزعم أن ساحة الحرب المقبلة ستكون العالم كله. ومضى يقول أن مهمة أمريكا في هذه الحالة هي أن تضمن لنفسها أكبر قدر ممكن من المرتكزات الاستراتيجية وإعداد قواتها بحيث تكون قادرة على الاحتفاظ بهذه الأراضي. وكان على هذا الرأي العديد من استراتيجيي البنتاغون الذين اعتبروا أن شبكة القواعد والمرتكزات المقامة فيهما وراء البحار تمنحهم، بشكل يكاد يكون آلياً، إمكانية التأثير باستمرار ودون عقبات على أنأى المناطق عن أمريكا وضمان مصالح الولايات المتحدة في أية "بقعة ملتهبة" في العالم.
ولا يخفى المخططون الأمريكان حالياً أن "استراتيجية القواعد" مثلها مثل مجمل استراتيجية "الردع العقلاني" كان موجهة في المقام الأول ضد الاتحاد السوفييتي السابق وسائر البلدان الاشتراكية وضد القوى الديمقراطية وحركة التحرر الوطني في العالم أجمع. وفي ذات الوقت فإن هذه الاستراتيجية تهدف أيضاً إلى مواصلة الضغط على حلفاء أمريكا الأصغر والبلدان والأنظمة التابعة لها, والاستمرار في إتباع سياسة الاستعمار الجديد وممارسة التوسع الاقتصادي ضد الشعوب والبلدان الأخرى.
وثمة أمر آخر على قدر كبير من الأهمية. فإن القوى الرجعية الأمريكية والتجمع العسكري الصناعي، عندما تعمد إلى إقامة القواعد والقوات خارج الولايات المتحدة. بل وخارج القارة الأمريكية أساساً، فإنها تأمل أن تدرأ عن أمريكا في حالة الحرب جزءاً من الضربة المضادة التي تنزلها البلدان المتعرضة للهجوم وإلقاء جزء كبير من أعباء التضحيات والدمار على عاتق حلفاء الولايات المتحدة الذين تتواجد القواعد الأمريكية في أراضيهم وجرهم إلى المشاركة في الحرب تلقائياً.
ما هي شبكة القواعد والمرتكزات الإمبريالية المقامة في أراضي الغير حالياً؟
تشكل أساس هذه الشبكة الواسعة قواعد الجيش والطيران والبحرية الأمريكية. وتمتلك وزارة الحربية الأمريكية (البنتاغون) زهاء ألفي منشأة عسكرية في أكثر من ثلاثين بلداً، علما بأن 340 من هذه المواقع تعتبر، طبقاً لمواصفات البنتاغون، قواعد أساسية أو ضخمة. ويرابط بشكل دائم في هذه القواعد زهاء ربع منتسبي القوات المسلحة الأمريكية، أي قرابة 500 ألف جندي وبحرا وضابط. توجد هناك خمس من الفرق النظامية الثلاث عشرة للجيش الأمريكي وحوالي 1500 من طائرات سلاح الطيران . ويوجد في المياه الأجنبية والموانئ والقواعد البحرية المقامة على أراضي الغير اثنان من أساطيل العمليات وعدد من التشكيلات وما يربو على 250 من سفن القتال والمساندة التابعة للأسطول الحربي الأمريكي ووحدات من مشاة البحرية الأمريكان
وتعتبر بلدان أوروبا الغربية وحوض البحر الأبيض المتوسط والشرق الأقصى وجنوب شرقي آسيا وكذلك منطقة البحر الكاريبي أكبر مناطق تمركز القواعد الأمريكية فيما وراء البحار.
وقد أقامت الولايات المتحدة خلال سنوات الحرب العالمية الثانية وبعدها أوسع شبكات قواعدها ومرتكزاتها في أوروبا الغربية وحوض البحر الأبيض المتوسط. فعلى أراضي ألمانيا الغربية وحدها يربو عدد المنشآت العسكرية الأمريكية على المائتين. ويتمثل أساس هذا التركيب القواعدي للبنتاغون بأوروبا في المنشآت العسكرية الاستراتيجية التي توجد، علاوة على ألمانيا الغربية، في بريطانيا وإيطاليا وإسبانيا واليونان وتركيا وإيسلنده وبلجيكا وهولندا والدنمرك وبلدان أخرى.
وللبنتاغون أكثر من خمسين قاعدة عسكرية كبيرة ومئات من المنشآت الأخرى في اليابان, ومن بينها القواعد الموجودة في أوركيناوا. وتوجد عشرات من القواعد الأمريكية الضخمة في كوريا الجنوبية وتايوان (فرموزة) والفلبين وتايلاند واستراليا،وفي العديد من الجزر الواقعة في الجزء الغربي من المحيط الهادي وفي المحيط الهندي.
لدى الطغمة العسكرية الأمريكية عدد كبير من القواعد والمنشآت العسكرية الأخرى في نصف الكرة الغربي. وندرج ضمن هذا العدد أهم منطقة لتمركز القواعد الأمريكية كمنطقة قناة بنما والقواعد العديدة في البحر الكاريبي ومختلف المنشآت العسكرية في جزر برمودا وباهاما وغيرها وشبكة القواعد الهامة في كندا وخاصة في الشمال الغربي منها.
وتقول مجلة "يونايتد ستيتس نيوز أند ورلد ريبوت" أن عدد منتسبي القوات المسلحة الأمريكية المرابطين في هذه المناطق هو كالآتي: أكثر من 300 ألف شخص في أوروبا الغربية و 155 ألف في غربي المحيط الهادي والشرق الأقصى و 15 ألفاً من بلدان أمريكا اللاتينية وحوض الكاريبي وزهاء عشرين ألفاً في مناطق أخرى*.
من المعروف أن البنتاغون قام في السنوات الأخيرة بإحداث بعض التخفيض في تعداد قواته في الخارج (الأمر الذي تطبل وتزمر له الدعاية الغربية عموماً والأمريكية خاصة). ففي أواخر عام 1973 وبعد إجراء التخفيض ربا تعداد هذه القوات على مليون شخص. وقد يبدو للوهلة الأولى أن هذا برهان أكيد على إعادة النظر في دور وأهمية "استراتيجية القواعد". ولكن القضية في الواقع بسيطة للغاية، إذا أن التخفيض المذكور جرى، بالدرجة الأولى، نتيجة انسحاب القوات المسلحة الأمريكية في فيتنام الجنوبية (عام 1972 كان عدد الجنود والضباط الأمريكان هناك يقرب من 173 ألفاً، وقبل هذا التاريخ زاد تعداد جيش الغزو الأمريكي في الهند الصينية على 500 ألف). كما جرى بعض التخفيض بفضل اعتماد ما يسمى بـ "نظام التدوير" بأن تكون القطعات القتالية والتشكيلات الكاملة المخصصة للقيام بدور النسق الأول في العمليات العسكرية على مسارح وراء البحار (في أوروبا الغربية مثلاً أو في الشرق الأقصى). أن تكون لها قاعدتان، حيث يرابط جزء من منتسبيها (لواء واحد في الغالب) في المواقع المتقدمة بشكل دائم، وتتواجد هناك أيضاً مجموعة كاملة من الأسلحة ومعدات القتال الثقيلة المخصصة للتشكيلة بأكملها، أما الأولوية والكتائب المتبقية فهي ترابط في الولايات المتحدة وتكون على كامل الاستعداد للانتقال جواً على الفور إلى "المنطقة المخصصة" لها عند ظهور خطر يهدد مصالح الإمبريالية.
وثمة جانب آخر ليس قليل الأهمية أدى إلى إجراء نوع من التخفيض في تعداد القوات الأمريكية في أراضي الغير. ونعني بذلك جعل الخدمة العسكرية مقتصرة على المحترفين فقط منذ صيف عام 1973. إن وجود جيش وأسطول قوامهما الجنود والبحارة والعرفاء العاملون وفق عقود طويلة الأمد يؤدي. بطبيعة الحال، إلى نوع من التخفيض في تعداد القوات المسلحة ويقلل الحادة السنوية إلى المجندين الجدد، ويتيح إمكانية حل مهمات الحفاظ على المستوى المطلوب في مجال إعداد منتسبي القوات المسلحة مع إنفاق وقت أقل لتعليمهم في المراكز التدريبية وقواعد التهيئة الأولية ومراكز التجنيد.. الخ.. وبعبارة أخرى فإن هذا النظام يمكن القيادة من تحقيق مستوى مقارب للمستوى السابق في الاستعداد القتالي لقواتها المسلحة بحجم أصغر من القوات العامة. ويجدر بالذكر أن هذا الوضع أتاح للبنتاغون الإمكانية في الأعوام الأخيرة لكي يسحب من أوروبا الغربية والشرق الأقصى وغيرهما من مناطق مرابطة لقوات الأمريكية في الخارج جزءاً من القطعات التدريبية ومراكز إعداد القوات الأمريكية في الخارج جزءاً من القطعات التدريبية ومراكز إعداد القوات وبعض قطعات المؤخرة والاسناد وغيرها، وهذا أثر بدوره على التعداد الإجمالي للقوات الأمريكية في الدول الأجنبية.
ومع إجراء هذه العمليات فإن البنتاغون لم يخفض قواته في بعض المناطق بل زاد من تعدادها. فقد ازداد خاصة تعداد التشكيلات القتالية الأمريكية بألمانيا الغربية، حيث ذكرت مجلة "يونايتد ستيتس نيوز أنه ورلد ريبورت" أن البنتاغون نقل إليها عامي 1975ـ 1976 لواء معززاً، ثم لواء أخر قوامهما الإجمالي 11 ألف جندي وضابط. وخلال الأعوام الأخيرة لم يتم إغلاق أي من القواعد العسكرية الأمريكية الضخمة في الخارج، أو أي من المنشآت العسكرية الاستراتيجية (يستثنى من ذلك بطبيعة الحال. المنشآت التي أرغم الأمريكان على الجلاء عنها بسبب تغير النهج السياسي لبعض البلدان ونضالات الجماهير ضد الإمبريالية). والأنكى من ذلك أن البنتاغون أنشأ خلال الآونة الأخيرة جملة من القواعد العسكرية الكبرى في أراضي الغير وخاصة في حوض المحيطين الهندي والهادي وفي الشرق الأوسط.
وهكذا نرى أن مزاعم بعض القادة السياسيين والعسكريين الأمريكان وعدد من أبواق الدعاية الغربية حول "المبادرات السلمية" للولايات المتحدة في مضمار "استراتيجية القواعد" إنما هي ادعاءات لا أساس لها من الصحة. بل إن حملة تشن في الكونغرس الأمريكي وعلى صفحات الجرائد وموجات الأثير تدعو إلى توسيع القواعد العسكرية القائمة وبناء أخرى "في أقرب فرصة" وإعادة بناء بعض المنشآت التي جمدت مؤقتاً، وإرسال المزيد من عمارات السفن الحربية وأسراب الطائرات والقوات البرية إلى عدد من المناطق. ولتبرير ذلك تطلق أكاذيب تزعم بوجود "ضرورة قصوى" لإبداء "مقاومة حازمة" لما يزعم بأنه "تصعيد خطر" للقدرة العسكرية السوفييتية في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي وغربي المحيط الهادي وفي أفريقيا والبحر الكاريبي ومناطق أخرى. ففي الولايات المتحدة تناقش بإصرار متزايد مسألة إنشاء تشكيلة بحرية أمريكية عاملة باستمرار في المحيط الهندي "على غرار الأسطول السادس في البحر الأبيض المتوسط" ويراد لهذه التشكيلة أن ترابط في القواعد الأمريكية الموجودة فعلاً، أو التي يجري إنشاؤها في الخليج العربي وقاعدة في جزيرة دييغو ـ غارسيا.
إن هذه الإجراءات، شأن "استراتيجية القواعد" الإمبريالية عامة، تطلب مبالغ طائلة. وقد أشار تصريح أدلى به سايمنغتون في لجنة شؤون القوات المسلحة بمجلس الشيوخ إلى أن المبالغ التي أنفقتها وزارة الحربية خلال السنوات العشر الأخيرة على القواعد المقامة ولتحديثها أو لإنشاء قواعد جديدة، وعلى إعالة وإعداد القوات الأمريكية وقوات الأسطول في الخارج، كانت تصل سنوياً إلى زهاء 30 مليار دولار منها أكثر من 17 مليار تنفق على القواعد والقوات الأمريكية المتواجدة في البلدان الأوربية الأعضاء في حلف النانو.
وعلاوة على ذلك فإن مبالغ ضخمة تنفق لهذه الأغراض عن طريق مجلس الناتو والقوات المسلحة الموحدة لهذا الحلف، وكذلك مباشرة من ميزانيات البلدان الأعضاء في الناتو وغيره من الأحلاف العدوانية.
إن هذه النفقات الطائلة تشكل عبئاً ثقيلاً للغاية يرهق كاهل الناس البسطاء ليس في الولايات المتحدة وألمانيا الغربية وبريطانيا وغيرها من الدول الإمبريالية فحسب بل، وفي البلدان التابعة لها. وتؤدي إلى تدهور الأوضاع المادية للسكان وتقليص الاعتمادات المخصصة للاحتياجات المدنية والبرامج الاجتماعية والصحة والتعليم.
إن العديد من القواعد هي حاميات عسكرية كبرى ذات منشآت معقدة ومناطق واسعة محظورة في أراضي الغير. ووجود هذه القواعد يشكل انتقاصاً للسيادة الوطنية، مما يثير استياء مشروعاً لدى السكان. زد على ذلك أن الأراضي التي تخصص للقواعد غالباً ما تكن من خيرة الأراضي الخصبة الصالحة للزارعة. فعلى سبيل المثال تحتل قاعدة كلارك ـ فيلد العسكرية الأمريكية في الفليبين مساحة تساوي مساحة واحدة من أكبر مدن العالم، وهي لندن، وهي مقامة على أخصب الأراضي في جزيرة لوسون. وقد صودرت من الفلاحين قطع كبيرة من الأراضي لتقام عليها القواعد العسكرية الأمريكية في أضنة بتركيا وتوريخون في إسبانيا وميسافا ويوكوتا وغيرهما باليابان. وثمة وضع مماثل في البلدان الأخرى التي توجد على أراضيها مرتكزات عسكرية للبنتاغون، وذلك بالرغم من حاجة هذه البلدان الماسة إلى الأراضي، وبالرغم من أن فلاحي هذه البلدان مضطرون إلى خوض كفاح مرير مع الطبيعة، وهم يكدون آناء الليل وأطراف النهار للحصول على لقمة العيش.
وعلاوة على الولايات المتحدة التي تحدثنا عن قواعدها العسكرية فإن أقرانها في الأحلاف العسكرية العدوانية، أي بريطانيا وألمانيا الغربية وإيطاليا وبلجيكا وهولندا وسائر الدول الإمبريالية. يشاركون بنشاط في السياسة الرجعية الاستعمارية الجديدة.
وكما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة فإن لغالبية الدول المذكورة جيوشاً جرارة (يصل التعداد الإجمالي لجيوش بلدان حلف الناتو إلى زهاء خمسة ملايين شخص)، وهي تنفق جزءاً كبيراً من ميزانياتها للاستعدادت العسكرية، ولها قواعد وقوات في أراضي الغير. وبالرغم من أن هذه القواعد لا تضاهي قواعد البنتاغون من حيث العدد فإنها تشكل أيضاً مصدر خطر عسكري يهدد قضية السلام، خاصة وإن الاستعدادات العسكرية للدول الأمبريالية تجري. إلى حد كبير، وفق خطط منسقة وتكون في الغالب تحت القيادة المباشرة للأوساط السياسية والعسكرية الأمريكية.
إن انجلترا،وهي من أقدم الدول الاستعمارية في العالم، قد كونت بواسطة الغزوات والحروب اللصوصية إمبراطورية استعمارية مترامية الأطراف، وظلت طوال قرون عديدة تنهب ثروات شعوب العشرات من البلدان في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ومناطق أخرى. وقد كانت الأداة الأولى التي استخدمتها انجلترا لبسط نفوذها تتمثل في القوة العسكرية وممارسة أبشع أنواع القمع ضد الشعوب والبلدان الأخرى. وأنشأت الامبراطورية البريطانية، خلال فترة تسلطها الاستعماري، العديد من القواعد العسكرية والمرتكزات ونقاط الاتصال ومراكز التموين، وكانت لها قدرات وأساطيل في مختلف بقاع العالم.
وكان أساس الجبروت البريطاني فيما وراء البحار متمثلاً في قواعد كبرى مثل هونع كونغ وسنغافورة بآسيا وسايمنستاون في جنوب أفريقيا وترينكومالي في المحيط الهندي وجبل طارق ومالطا وفاماغوستا في البحر الأبيض المتوسط وكينغستون في حوض البحر الكاريبي وكثر غيرها. وحاولت الإمبريالية البريطانية عن طريق إقامة هذه القواعد وحشد قوات غفيرة فيها أن تملي إرادتها على مناطق العالم بأكملها.
إن انهيار الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية بفعل النهوض الجبار لحركة التحرر الوطني في المرحلة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية والسنوات التي أعقبتها، وبعد أن ألحقت قوات التحالف المعادي للهتلرية هزيمة نكراء بالفاشية الألمانية والعسكرية اليابانية، أدى إلى تقويض قدرات الرأسمال الاحتكاري البريطاني. وفقدت بريطانيا عدداً من أهم الأسواق ومصادر الخامات الاستراتيجية والمرتكزات والقواعد العسكرية.
بيد أن بريطانيا ما برحت تحتفظ بعدد من قواعدها الجوية والبحرية ومنشآت أخر في مالطا وقبرص وجمهورية جنوب أفريقيا وسنغافورة، ولها قلعة هامة في البحر الأبيض المتوسط هي جبل طارق، علاوة على تسلطها على قواعد عسكرية في جامايكا وعدد من الممتلكات الاستعمارية في أمريكا اللاتينية. وتولى الدوائر العسكرية البريطانية اهتماماً كبيراً لتعزيز مواقعها العسكرية في الخليج العربي، حيث انشئت ووسعت قواعد الشارجه ومسقط ويجري التحضير لإقامة منشآت عسكرية جديدة. وتستمر عملية البناء العسكري في جزر المحيط الهندي وخاصة في جزر سيشيل وكوكس ومصيره والدبرة.ويشترك البريطانيون مع البنتاغون في بناء قاعدة دييغو ـ غارسيا. وترابط في غالبية القواعد البريطانية قطعات ضخمة من القوات المسلحة وبينها وحدات مشاة البحرية والوحدات الخاصة المعدة للقيام بعمليات تنكيلية ولمحاربة قوى التحرر الوطني والحركات الوطنية.
وما زالت فرنسا أيضاً تحتفظ بجزء من قواعدها العسكرية في أراضي الغير. وللقوات الفرنسية عدد من المنشآت في أراضي جمهورية ملغاشيا وجزيرة ريونيون في المحيط الهندي وفي عفار وعيسى (جمهورية جيبوتي حالياً) وفي شرقي أفريقيا وحوض البحر الكاريبي ومناطق أخرى.
وخلال السنوات الأخيرة عمدت أوساط معينة في ألمانيا الغربية وقيادتها العسكرية إلى زيادة نشاطاتها في هذا المجال بشكل ملحوظ. ومنذ أكثر من عشر سنوات تشترك الأوساط العسكرية الألمانية الغربية في استخدام قواعد عسكرية في كندا وبريطانيا وجزيرة صقلية الإيطالية وفي جزيرة كريت. وتبحث هذه الأوساط بإصرار عن فرص للتغلغل في بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب شرقي آسيا. وتستخدم لتحقيق هذه المآرب الأسلحة والمعدات العسكرية التي تستوردها بعض البلدان النامية من ألمانيا الغربية، وإيفاد مستشارين ومدربين من القوات المسلحة الألمانية الغربية لتدريب جيوش بلدان أخرى، وغير ذلك من أشكال التغلغل.
إن قادة بكين يجدون اليوم تفاهماً متبادلاً متعاظماً مع غلاة الأوساط الرجعية الإمبريالية في مجال تنفيذ "استراتيجية القواعد"، كما في العديد من القضايا الأخرى. ولا يقتصر الزعماء الصينيون على تأييد هذه السياسة الإمبريالية وبذل جهود كبيرة لوضع العراقيل أمام حركة التحرر الوطني وجميع الشعوب المحبة للسلام في نضالها ضد السياسة الإمبريالية التي تتبعها الولايات المتحدة وحلفاؤها، بل أنهم يسعون على نطاق متزايد لضمان مواقعهم العسكرية في أراضي الغير ببلدان أجنبية. ومن الشواهد على ذلك ما قامت به زعامة بكين أثناء النزاع الهندي الباكستاني في كانون الأول (ديسمبر) 1971، ودعمها للزمر المعادية للثورة ومختلف القبائل المتمردة في عدد من بلدان جنوب شرقي آسيا. ومن الأمثلة البليغة في هذا المضمار ما قامت به بكين شتاء 1975ـ 1976 في أنغولا، حيث دعما عسكرياً مباشراً للتكتيلات الإنشقاقية الموالية للإمبريالية وزودتها بكميات ضخمة من الأسلحة، وأوفدت إلى هناك أعداداً كبيرة من العسكريين تحت ستار العمل كمستشارين وخبراء في تقديم المساعدة العسكرية. وقد تمت هذه العمليات كلها باتصال وثيق مع الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين حاولتا بكل ثمن إعاقة شعب أنغولا عن سلوك سبيل الاستقلال والسيادة الحقيقي.
إن سياسة التوسع الإمبريالية و"استراتيجية القواعد" المسخرة لخدمتها تمارسان تأثيراً وخيم العواقب على اقتصاديات البلدان التي تتخذ مسرحاً لهذه الاستراتيجية. فإن وجود القوات والقواعد العسكرية في أراضي الغير يتيح للإمبرياليين الفرصة لكي يمارسوا بطمأنينة استغلال البلدان التابعة ونهب ثرواتها الطبيعية وتقويض اقتصادها. وقد كتبت مجلة "يونايتد ستيتس نيوز أند ورلد ريبورت" الأمريكية بهذا الصدد تقول إن لوجود القواعد الأمريكية في بلدان أخرى مردوداً لا يقتصر على الجانبين الاستراتيجي والسياسي بل أنه يعطي ثماراً اقتصادية كبيرة وهذا، على حد تعبير المجلة، أمر عظيم الأهمية في ظروف المتاعب وعدم الاستقرار القائمة حالياً. وحينما يحاول سكان البلدان التي توجد على أراضيها قوات وقواعد أجنبية حماية حقوقهم والذود عن سيادة بلدهن فإن الطغمة العسكرية الأجنبية لا تتورع عن اللجوء إلى السلاح لقمع المظاهرات والاجتماعات ولمحاربة المضربين، وإذا لم يجد ذلك نفعاً فإنها تعمد إلى نقل إمدادات من القوات وممارسة الغزو والاحتلال.
هكذا كان الحال خريف عام 1956 حينما شنت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل العدوان الثلاثي على مصر رداً على القرار المشروع الذي اتخذته الحكومة المصرية بتأميم قناة السويس. وصيف عام 1958 قامت الولايات المتحدة الأمريكية، بالتواطؤ مع بريطانيا، بغزو مسلح في لبنان والأردن، نظراً لأن النشاطات المناهضة للإمبريالية في هذه المنطقة أخذت تهدد مصالح الاحتكارات الأمريكية والبريطانية. وهكذا بالضبط تطورت الأحداث في غيانا البريطانية (غايانا حالياً) عام 1964 وفي جمهورية الدومنيك عام 1965 وفي بلدان أخرى. ولكن سياسة استخدام القواعد والقوات الأجنبية لقمع القوى الديمقراطية والتحررية الوطنية تجلت بأبشع صورها في الهند الصينية حينما عمد الأمبرياليون الأمريكان، سعياً منهم للحفاظ على أهم المرتكزات الاستراتيجية بأي ثمن، إلى شن حرب عدوانية دموية أثارت سخطا مشروعاً في أوساط الرأي العام العالمي، بما في ذلك لدى القوى التقدمية في الولايات المتحدة ذاتها.
إن الأهداف السياسية والاقتصادية والعسكرية البعيدة المدى التي تتوخاها قوى العدوان الإمبريالي من وراء "استراتيجية القواعد" تثير قلقاً وسخطاً مشروعين لدى أوسع الجماهير في البلدان التابعة. وإن التصرفات اللاأخلاقية بل والاجرامية العديدة التي يقوم بها أفراد القواعد العسكرية الأجنبية المتمتعون في أحوال كثيرة، يحقون الحصانة، هي انتقاص من العزة القومية للسكان المحليين.
إن القواعد العسكرية هي من رواسب "الحرب الباردة" ويشكل وجودها عقبة كأداة في طريق مواصلة تحسين الوضع الدولي، وهو يتناقض مع سياسة الانفراج والتعايش السلمي بين الدول ذات الأنظمة الاجتماعية المختلفة.
لذا فإن النضال ضد "إستراتيجية القواعد" وضد السياسة العدوانية التي تمارسها القوى الرجعية الإمبريالية، يكتسب اليوم أبعاداً متعاظمة. وإلى جانب الجماهير الواسعة والأوساط التقدمية يشارك في هذا النضال أحياناً بعض ممثلي الهيئات الحكومية والتشريعية والصحفية والإعلامية في البلدان التي توجد على أراضيها قواعد عسكرية أمريكية وبريطانية وفرنسية وغيرها. ويدرك كل إنسان سديد الفكر أن وجود القوات والقواعد العسكرية في بلد أجنبي لا يساعد على تعزيز سيادة هذا البلد، ويؤدي إلى تقويض اقتصاده، وينطوي على خطر عسكري كبير.
وتشكل القوى المناهضة "لاستراتيجية القواعد" الغالبية. ولكن لا يسعنا التغاضي عن عدداً غير قليل من دعاة الإبقاء على القواعد والقوات الأجنبية، يوجد في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا الغربية والدول الإمبريالية الأخرى، وكذلك في البلدان التي غدت مسرحاً "لاستراتيجية القواعد". وغالبية هؤلاء من الساسة الرجعيين وممثلي الأوساط العسكرية الصناعية وكبار رجال الأعمال ومرتزقتهم من موظفي مختلف هيئات الإعلام. وفي عداد أنصار الإبقاء على القواعد والقوات الإمبريالية في أراضي الغير الأوساط الموالية للإمبريالية في عدد من البلدان النامية والتابعة. وتحاول هذه القوى، خلافاً للأوضاع القائمة فعلياً في العالم، إقناع المواطنين في بلدانها بأنها القوات الأجنبية ضرورية للدفاع عن هذه البلدان وحماية مصالح العالم البورجوازي كله من خطر شيوعي مزعوم. وتحاول كذلك إقناع شعوب بلدانها بأن وجود قوات أجنبية سيعود عليها بمنفعة اقتصادية كبيرة. وتزعم أن "خطر التوسع الشيوعي" يهدد هذه الدول كلها، ولا مفر منه إلا بمواصلة تعزيز التحضيرات العسكرية وزيادة القدرات الحربية "للأسرة الغربية" و"المنظومة الأطلسية".
كما يدعو إلى الإبقاء على الوجود العسكري الأجنبي بعض فئات السكان المحليين العاملين في التجارة وفي خدمة القواعد العسكرية وخاصة في الموانئ التي ترسو فيها السفن الحربية الأجنبية، أو في الحاميات التي ترابط فيها القوات الأجنبية.
بيد أن القوى التقدمية والوطنية المعبرة عن مصالح الشعب الجذرية، تدرك حق الإدراك خطورة "استراتيجية القواعد" ومجافاتها لمهمات توطيد السلام والأمن الدولي، وتنخرط بنشاط متعاظم في النضال من أجل تصفية القواعد العسكرية وجلاء القوات الأجنبية عن أراضي الغير.
الفصل الثاني
المنطقة المركزية "لاستراتيجية القواعد"
في هزيع متأخر من إحدى ليالي أوائل آب عام 1964 كان السكون يلف القرى والمزارع الممتدة بحذاء السواحل الصخرية لخليج هولي ـ لوك الاسكتلندي، وكان نور المصابيح المتناثرة على امتداد الطريق لا يرى إلا بالكاد من خلال الضباب الكثيف. وفي هذه الأثناء كانت الغواصة حاملة الصواريخ الأمريكية "أندريو جيسكون" تنطلق دون ضوضاء مبتعدة عن القاعدة العائمة "كانوبوس" التي كانت محتمية بجدرانها العالية.
وبعد بضع ساعات، حينما كانت الغواصة قريبة من المنطقة المحددة لها للقيام بدوريتها طرق باب القبطان جندي الشفرة وكان الارتباك ظاهراً عليه. سلم الجندي القبطان نص برقية استلما للتو، وكانت الورقة تحمل ثلاثة حروف فقط: ASQ . ولم يكن معنى هذه الحروف ليخفى على الرجلين، إذ أنها كانت تعنى أن الغواصة تلقت أمراً قتالياً. وطبقاً لذلك كان ينبغي أن ترتفع الغواصة إلى عمق 20 متراً وتطلق جميع ما على متنها من الصواريخ الباليستيية "بولاريس" وعددها 16 صاروخاً. وبتعبير آخر كان من المرتقب أن ينطلق من جوف المحيط، من المكان الذي تتواجد فيه "أندريو جيسكون" 16 رأساً نووياً ذا قدرة عالية مصوبة مسبقاً على مدن غربية تبعد مئات الأميال عن هذا المكان، وكان يجب أن يتم ذلك بعد مرور 15ـ 20 دقيقة من تلقي الإيعاز.في ذلك الحين كان البنتاغون يعمد إلى تسعير أوار الحرب في فيتنام، والعالم كله في قبضة "الحرب الباردة" الخطرة وهو قلق من أن تتطور النزاعات المحلية إلى حريق يلتهم العالم.
وكان قبطان الغواصة "أندريو جيكسون" قد سمع قبل مغادرته قاعدة هولي ـ لوك أن حدثاً خطيراً قد وقع قبل يومين أو ثلاثة في خليج تونكين عند سواحل فيتنام، بل وتناهب إلى سمعه أقاويل تزعم أن زوارق طوربيد فيتنامية شمالية قد هاجمت مدمرتين أمريكيتين. وقيل أن هذا الحادث حدا ببعض "الصقور" في الكونغرس ووزارة الحربية في الولايات المتحدة إلى الإدلاء بتصريحات شديدة اللهجة تطالب بشن حرب غير محدودة ضد فيتنام على الفور، ورد الصاع صاعين، بل وإلقاء قنبلة نووية على هانوي، دون تهيب مما قد يعقب ذلك.
وكما قال القبطان فيما بعد فإن المعلومات المتوفرة لديهم آنذاك كانت مبتورة، وكل ما وصل إلى علمهم أن شيئاً ما يحدث ولكن دون أن يعرفوا كنه الأمر. كانوا يشعرون أن الوضع متأزم للغاية.. ولا شيء غير ذلك.
وقد أدت الشفرة ASQ وما أعقب ذلك من أوامر أصدرها القبطان إلى كهربة الجو في حاملة الصورايخ. وأدرك أفراد الطاقم كنه ما يحدث، وبدأت في الغواصة الاستعدادات لإطلاق الصواريخ. ولم يكن أفراد طاقم الغواصة "أندريو جيسكون" وعددهم 140 شخصاً يجهلون مغزى عملية الإطلاق التي سيقومون بها إذ أن كلا من الرؤوس النووية التي كان ينبغي أن تنطلق بعد بضع دقائق متجهة إلى الهدف، إلى مدن أجنبية، كان يفوق بأكثر من ثلاث مرات قوة القنبلة النووية التي ألقيت على هيروشيما في آب عام 1945. وقد أودت كارثة هيروشيما بأرواح عشرات الآلاف من سكان المدينة ودمرت زهاء ثلثي مبانيها.
واضح أن البحارة الأمريكان كانوا على علم بذلك، ولكن أيا منهم، كما قال القبطان فيما بعد، لم يتردد ولم يساوره الشك في صواب ما تجني يداه. كان الجميع يعملون بهدوء وبرود استعداداً لإطلاق الصواريخ، لجريمة قتل جماعية تكون، بطبيعة الحال، إيذاناً ببدء حرب نووية مروعة.
وفي تصريح لمجلة "نيويورك تايمس ماغازين" تحدث القبطان فيما بعد عن ذكرياته فقال أنه خشي البدء أن يكون شيئاً ما قد حصل، إذ أن مثل هذه الأمور لا تحصل كل يوم. ولكنه استعاد هدوءه، وسار كل شيء على أحسن ما يرام، وكان كل فرد يؤدي عمله وكأنه أثناء التدريب.
… قبل خمس دقائق من إطلاق الصواريخ عاد جندي الشفرة يطرق باب القبطان. أخذ الضابط نص البرقية الجديدة وقرأه فارتعشت يداه. كانت الشفرة تقول أن خطأ قد حدث، وأن حالة الإنذار كانت تدريبية. وكل ما في الأمر أن جندي الشفرة في هيئة الأركان قد أخطأ في كتابة الرموز، وعوضاً عن الشفرة التي تعني الإنذار التدريبي قام ببث الحروف المشؤومة الثلاثة. ألغى أمر الإطلاق، وظلت الصواريخ في مرابضها.
حدث هذا قبل خمس دقائق فقط من الإطلاق!! ما كان يحصل لو…؟
عسير على المرء تصور ما كان ليحدث لو لم يكتشف الخطأ في هيئة الأركان، أو لو تأخرت البرقية الثانية خمس دقائق فحسب!! لو حدث شيء من ذلك لانطلق 16 صاروخاً من طراز "بولاريس" يزن كل منها عدة أطنان واحداً تلو الآخر من مرابضها، ولخرقت سطح الماء وانطلقت مدوية إلى عنان السماء الفاحمة. وما كانت الصواريخ لتستغرق أكثر من 20ـ 25 دقيقة لبلوغ الهدف وحينذاك، وإذا لم تعترضها قوات الدفاع الجوي في البلد المستهدف من قبل المعتدين، لادت إلى مصرع الملايين من البشر، ليس فقط في المدن والمناطق المصوبة إليها صواريخ الغواصة "أندريو جيكسون". إذ لو حدث ذلك لكان من المحتم أن توجه ضربة ردع هائلة خلال بضع دقائق ضد البلد الذي أشعل نيران الحرب واقترف جريمة ضد البشرية. وما كان لتسلم الدول التي جعلت من أراضيها موقعاً لقواعد العدوان الأمريكية وسمحت بتحويل موانئها إلى مراس تتخذها "أندريو جيكسون" وغيرها من الغواصات الصاروخية.
ثمة مثل إنكليزي حكيم يقول.. إذا كان بيتك من زجاج فلا ترمينّ الناس بحجر. ويصدق المثل اليوم أكثر من أي وقت مضى، وهو ينطبق على البريطانيين أكثر من غيرهم.
إن خليج هولي ـ لوخ الذي انطلقت منه الغواصة "أندريو جيكسون" في رحلتها المشؤومة صيف عام 1964 يقع في الشمال الغربي من الجزر البريطانية، في منطقة تتاخم مدينة غلاسكو وهي من أكبر المدن والمراكز الاقتصادية والثقافية في اسكتلنده. وهذا الواقع مدعاة قلق العديد من البريطانيين. وبسخرية مريرة يطلق أهالي غلاسكو على خليجهم الذي كان فيما مضى هادئاً لا يعرفه أحد تسمية المغناطيس النووي الأمريكي، ولا تجانب هذه التسمية الصواب. وهم على حق حينما يقولون أنه حتى لو تعرضت هولي ـ لوك إلى غارة اعتيادية في حالة نشوب قتال لأدى ذلك حتماً إلى وقوع ضحايا ودمار في المناطق القريبة. فما بالك إذا كانت الضربة الجوابية للهجة التي تعرضت لهجوم السفن الأمريكية المنطلقة من الخليج المذكور ضربة نووية؟
إن خليج هولي ـ لوك ليس البتة "المغناطيس النووي" الوحيد الذي يمتلكه البنتاغون في الأراضي البريطانية. فقد تبقت هناك منذ الحرب العالمية الثانية العديد من هيئات الأركان الأمريكية وقطعات قتالية وهيئات المؤخرة.
وفي فترة ما بعد الحرب شيد البنتاغون هناك عدداً كبيراً من المنشآت العسكرية الجديدة، بينها زهاء عشرين قاعدة عسكرية ضخمة، وفي المقام الأول القواعد الجوية التالية: ويزرسفيلد وليكنهيث وبنتووترس ورويسليب وملدنهول وأبّرـ هيفورد وغيرها. وغالبية هذه القواعد مقامة بالقرب من كبريات المدن مثل لندن وغلاسكو وليفربول وبرمنغهام وما نجستر، الأمر الذي يثير قلقاً مشروعاً لدى الكثير من البريطانيين، وخاصة أهالي هذه المدن والمناطق القريبة منها.
إن التغيرات الكبيرة الجارية في العالم وتطور الأسلحة ومعدات القتال وإعادة النظر في بنود معينة من المذهب العسكري الأمريكي، وبخاصة إقرار استراتيجية "الردع العقلاني" المعدة لشن الحرب النووية الشاملة والاعتيادية على حد سواء، ذلك كله ينعكس إلى درجة معينة على شبكة قواعد البنتاغون في بريطانيا. فخلال السنوات الأخيرة أعيد تنظيم عدد منها لجعلها صالحة للاستخدام من قبل الأنواع الجديدة من الطائرات، وجمد العمل في عدد آخر بشكل مؤقت، ولكن الغالبية جرى تحديثها وتوسيعها وهي تستخدم بشكل مكثف حالياً لضمان نشاطات القوات المسلحة الأمريكية في أوروبا ومنطقة المحيط الأطلسي.
ويرابط في هذه القواعد الجيش الجوي الأمريكي الثالث (أكثر من ثلاثمائة طائرة قتالية وزهاء عشرين ألف عسكري) وعدد من وحدات الإسناد والمؤخرة التابعة للجيش والقوات الجوية.
ويستخدم الطيران الأميركي على نطاق واسع هنا قواعد تمتلكها القوات الجوية البريطانية ولكنها وضعت تحت تصرف القوات المسلحة الموحدة لحلف الناتو.
وللقوات المسلحة الأمريكية قواعد في بلدان أخرى بأوروبا الغربية. ويستفاد من معلومات رسمية صادرة عن وزارة الحربية الأمريكية نشرتها مجلة "يونايتد ستيتس نيوز أند ورلد ريبورت" أنه يوجد حالياً في أراضي أوروبا أكثر من 300 ألف جندي وضابط أمريكي (وفي الآونة الأخيرة يتزايد هذا الرقم باطراد) منهم 220 ألفاً في القوات البرية و 70 ألفاً في القوات الجوية. ويوجد في القارة زهاء 180 قاعدة كبرى علاوة على مئات المنشآت العسكرية الأخرى*.
إن المجموعة العسكرية الأمريكية المرابطة في أوروبا الغربية هي من أكبر وحدات البنتاغون البرية وأحسنها تدريباً وتتألف من فيلقي مشاة وأربع فرق آلية ومدرعة وعدد من الألوية والأفواج المستقلة بالإضافة إلى عدد كبير من تشكيلات وقطعات التعزيز والتأمين ومن بينها ألوية وكتائب صاروخية وصاروخية مضادة للجو ومدفعية وما إلى ذلك. كما ترابط بشكل دائم في الأراضي الأوروبية ثلاثة من جيوش سلاح الجو الأمريكي وقوات بحرية كبيرة.
وحشد البنتاغون في أوروبا الغربية أكبر ترسانات الذخيرة النووية محولاً هذه المنطقة إلى مستودع نووي. وذكر الصحف الأجنبية أن الترسانة الذرية الأمريكية في أوروبا تتألف من زهاء ثمانية آلاف قطعة بينها قنابل الطائرات والعبوات والتوربيدات والقذائف المدفعية ورؤوس الصواريخ.. الخ. ويوجد عدد من هذه القطعات، كالعبوات النووية، في مخازن مخفية بدقة شيدت في ألمانيا الاتحادية وبلدان أخرى في أهم مناطق التقاء خطوط القطارات والسيارات وعند الجسور والمعابر والمضائق الجبلية وأماكن أخرى.
إن وجود هذا العدد الكبير من الذخائر النووية الأمريكية والعدد المماثل من معدات إيصالها إلى الهدف في أراضي أوروبا الغربية، يثير اليوم قلقاً متزايداً في أوساط الرأي العام الأوروبي. وفي محاولة لتبرير هذه الخطوات وتصويرها كإجراءات اضطرارية, تزعم الصحف ومحطات الإذاعة والتلفزيون الرجعية أن ذلك كله هو تدبير حيوي ضروري لإنقاذ أوروبا في حالة حصول "زحف من الشرق". وهذه المزاعم متهافتة لا أساس لها من الصحة إطلاقاً، الأمر الذي اضطرت حتى الصحافة الأمريكية لى الاعتراف به. فقد كتب هارش معلق صحيفة "كريستشين ساينس مونيتور" يقول: "من الخطأ الاعتقاد بأن القوات والقواعد الأمريكية متواجدة في أوروبا بوازع من الإيثار أو حب الأوروبيين. فهذا هراء بطبيعة الحال. أنها متواجدة هناك ليس بدافع الحرص المرهف على رخاء الآخرين، بل لأغراض نفعية شخصية، وبالدرجة الأولى للسهر على مصالح الولايات المتحدة في هذا الجزء من العالم الذي له أهمية قصوى لرخاء أمريكا"*.
وخلافاً للوقائع، لا تزال إحدى الذرائع التي غالباً ما تطرح لتبرير الحاجة القصوى المزعومة للإبقاء على "الوجود العسكري" الأمريكي في أوروبا الغربية بشكل مستمر، تتلخص في زعم مفتعل حول وجود "خطر دائم من قبل الشيوعية العالمية" والادعاء بأن لبلدان معاهدة وارسو "قبضة مدرعة خطرة مهيأة للانقضاض على البلدان الغربية في أي لحظة" وأن هذه "القبضة المدرعة" متواجدة عند حدود دول أوروبا الغربية.
ومثال هذه الدعاية الكتاب الذي صدر في بريطانيا عام 1974 بعنوان "أزمة الدفاع الأوروبي" والذي لم يأل مدبجوه جهداً لتخويف قرائهم بخطر هو من بنات خيالهم، حيث يزعمون أن "الأرتال الآلية الروسية" يمكن في أي لحظة أن "تكتسح السهوب الأوروبية من جهة الشرق". وبغية ترسيخ هذه الأكذوبة في ذهن القارئ يورد الكتاب شتى الحسابات والأرقام التي ينبع منها أن قوات البلدان الاشتراكية الأوروبية تفوق عدة أضعاف قوات بلدان حلف الناتو من حيث الدبابات والمدفعية والصواريخ والمعدات الحربية الأخرى، وأنها تقوم باستعدادات محمومة "لغزو الغرب" وقد عيا صبرها في انتظار لحظة البدء لتدمير الحضارة الغربية*.
إن هذه الأساليب والحجج التي تسوقها الدعاية الغربية ليست مبتكرة. فما أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى شرعت الدول الإمبريالية، بزعامة الولايات المتحدة وتحت سترا "حماية الحضارة" من خطر "الشيوعية العالمية" المزعوم، شرعت بإنشاء شبكات أحلاف عسكرية عدوانية وإقامة شبكة واسعة متطورة من القواعد العسكرية ليس في أوروبا الغربية فحسب، بل وفي الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وجزر المحيطين الهادي والهندي ومناطق أخرى. واعتماداً على هذه القواعد والقوات المتواجدة فيها وبتسعير أوار معاداة الشيوعية، سعى الإمبرياليون لتعزيز مواقعهم في المناطق الهامة الاستراتيجية وتكبيل البلدان التابعة بالمزيد من الأغلال، لكي يمارسوا على نطاق أوسع استغلال شعوب هذه البلدان وثرواتها الطبيعية والتدخل في شؤونها الداخلية وصياغة سياستها. وكانت الدعاية البورجوازية تطلق على خصوم التحكم الإمبريالي نعوت "عملاء الشيوعية العالمية" و"صنائع موسكو".
وبطبيعة الحال فإن البلدان المحبة للسلام كان لزاماً عليها أن تحرص على أمنها لمواجهة التحضيرات العدوانية الإمبريالية وتصاعد حمىّ معاداة الشيوعية. واضطرت البلدان الاشتراكية الأوروبية إلى اتخاذ تدابير معينة،وعقدت معاهدة وارشو عام 1955. وطبقاً لروح هذه المعاهدة وأحكامها الأساسية تم تأسيس القيادة الموحدة وهيئات الأركان والقوات المسلحة الموحدة للبلدان المتحالفة، وتواجد عدد من التشكيلات والقطعات السوفييتية في أراضي جمهورية ألمانيا الديمقراطية وغيرها من بلدان معاهدة وارشو. ولكن الاتحاد السوفييتي وسائر البلدان الأعضاء في معاهدة وارشو أكدت عند عقد هذه المعاهدة وفيما بعد أن هذا التحالف هو إجراء اضطراري ومؤقت، شأن سائر التدابير الدفاعية المنبثقة عنه، كما دعت البلدان الغربية وخاصة الولايات المتحدة وسائر دول حلف الناتو إلى الشروع بمفاوضات حول حل الحلفين أو حل منظومتيها العسكريتين كخطوة أولى دعما للانفراج في أوروبا والعالم أجمع.
وكان مؤتمر هلسنكي لعموم أوروبا ثمرة جهود بذلتها البلدان الاشتراكية خلال سنين عديدة، وثمرة نشاطات القوى المحبة للسلام في العالم كله والتي أيدها القادة ذوو التفكير السديد في الدول الغربية. وخلقت الوثيقة الختامية التي وقع عليها جميع المشاركين في المؤتمر، خلقت ظروفاً مؤاتية لمواصلة تعزيز السلام والتعاون القائم على علاقات حسن الجوار في أوروبا وخارجها على حد السواء.
وبالرغم من ذلك فقد ظلت بعد مؤتمر هلسنكي مجموعة من القضايا المعلقة وعلى رأسها مسألة استكمال الانفراج السياسي بانفراج عسكري.
إن الاتحاد السوفييتي وسائر البلدان الأعضاء في معاهدة وارشو تدعو بحزم إلى اتخاذ قرارات بهذا الصدد وهي تدعو بلدان الغرب مرة أثر أخرى إلى حل مسألة نزع السلاح الفعلي والتقليص المتبادل للقوات المسلحة وانسحاب القوات المتواجدة في الأراضي الأجنبية وتصفية القواعد العسكرية في أراضي الغير. وللأسف لا تجد هذه النداءات المتجاوبة مع مصالح البشرية جمعاء، الدعم اللازم من قبل الولايات المتحدة وسائر بلدان حلف الناتو. وتسعى الدوائر الإمبريالية الرجعية في هذه البلدان، بشتى السبل، لعرقلة حل مسألة الانفراج العسكري. وإن البنتاغون ومن يقف وراءه يصمون أسماعهم عن النداءات الداعية إلى انسحاب القوات المسلحة الأمريكية وتصفية القواعد العسكرية الأمريكية في أوروبا وخاصة في ألمانيا الاتحادية، بل أنهم يصمون الأسماع عن النداءات الداعية لإجراء أي تقليص ملموس في هذه القوات. ولكن تجدر الإشارة إلى أن وزارة الحربية الأمريكية اتخذت خلال الأعوام الأخيرة قرارات حول تجميد بعض منشآتها الثانوية في غرينلاند واسبانيا وبريطانيا وبلدان أخرى، وأثارت ضجة دعائية كبرى حول هذه المسألة. ولكن البنتاغون نفسه لا يخفي أنه أقدم على ذلك، بالدرجة الأولى، انطلاقاً من اعتبارات تكتيكية بحتة لأن هذه القواعد فقدت أهميتها القتالية السابقة بفعل التغيرات لجوهرية الناجمة عن الثورة الحاصلة في الميدان العسكري وظهور أصناف جديدة من الأسلحة. أما القواعد الأساسية وخاصة الواقعة في أهم المناطق الاستراتيجية المتاخمة لحدود الدول المحبة للسلام، فإنها على أهبة الاستعداد القتالي ويجري تحديثها وتوسيعها باطراد.
وينسحب هذا بالدرجة الأولى على القواعد الأمريكية في قلب أوروبا الغربية. فإن أراضي ألمانيا الاتحادية، مثلاً، هي اليوم أكبر منطقة تحشد للقوات والقواعد الأمريكية في أوروبا الغربية. وترابط هناك القوات البرية الأساسية التابعة للقيادة الأوروبية للقوات المسلحة الأمريكية، وهي فيلقا المشاة الخامس والسابع وقوامهما أكثر من 180 ألف جندي وضابط، وخيرة تشكيلاتها القتالية تدريباً وغالبية الدبابات وقطعات الإسناد الصاروخي النووي الأساسية وقوات ثانوية وغيرها. كما يرابط في ألمانيا الاتحادية الجيش الجوي السابع عشر التابع للقيادة التكتيكية للقوات الجوية الأمريكية، وهو يتألف مما يزيد على 260 طائرة قتال وأكثر من 32 ألف فرد. كما ترابط في ألمانيا الاتحادية بعض الوحدات ومؤسسات القوات البحرية الأمريكية. ويربو التعداد الإجمالي لمنتسبي القوات المسلحة الأمريكية المرابطين في أراضي جمهورية ألمانيا الاتحادية على 220 ألف جندي وضابط*.وتعتمد هذه القوات على شبكة واسعة من القواعد والمنشآت الأمريكية المقامة على أراضي ألمانيا الاتحادية وهي تتألف مما يزيد على 200 موقع عسكري ضخم، عدا مراكز الاتصال وقواعد النقل و مرائب السيارات والمستودعات وميادين الرماية ومراكز الاستطلاع ومواقع الإنصات الراديو تكنيكي والإنذار والاتصال